لعل من اكبر الشعارات التي رفعتها الحكومات
المتتالية على تونس منذ 2011 هو شعار مقاومة الاقتصاد الموازي. بيد أن البون يبقى
شاسعا بين الشعارات المرفوعة وتنفيذها على أرض الواقع. إن مقاومة الاقتصاد
"الأسود" أو " التحت أرضي" يعد أمرا ضروريا نضرا لاستشراء
الظاهرة بصفة مفرطة، تعدت المعدلات العالمية والإقليمية وشكلت وزرا هاما على
الاقتصاد الوطني وعلى ميزانية الدولة التي تطورت بصفة ملحوظة في غضون سنوات قليلة
دون أن تتطور المداخيل في المقابل. حيث ارتفعت ميزانية الدولة التونسية من 20 إلى
29 مليار دينار في حوالي خمس سنوات بينما تطورت نسبة الدين من42% سنة 2010 إلى
53,8% هذه السنة وهو ما يفسر عجز الدولة على تعبئة الموارد اللازمة لتغطية
مصاريفها مما دفعها للإفراط في التداين. تقدر أكثر الدراسات احتياطا نسبة
الاقتصاد الموازي في تونس ب35٪ بينما يذهب بعض الخبراء الى اعتبار الاقتصاد
الموازي في حجم الاقتصاد المعلن بل ويفوق نسبة الخمسين بالمائة وهو ما يدق نواقيس
الخطر على اقتصاد آخذ في الانفلات من سلطة الدولة. ولو أن هذه النسب تبقى رهينة
طرق التقدير المتنوعة والتقريبية في مجملها.
هذا التطور في الاقتصاد الموازي في تونس يأتي
في فترة تميز فيها العالم بتقهقر نسبه حيث يقدر المعدل العالمي من 22% الى 25% من
الناتج الداخلي الخام العالمي وتنزل هذه النسبة ل18,5% في أوروبا في سنة 2014 بعد
أن كانت في 2003 في حدود 22,6%. تتفاوت هذه النسبة من بلد الى آخر وتناهز في
بعض البلدان ال70% مثل تايلاندا ومصر وبوليفيا. بينما تتصدر الولايات المتحدة
الأمريكية الترتيب بنسبة 5,9% تليها سويسرا بنسبة 6,9%.
هذا التفاوت يجعلنا نتساءل على أسباب وجود
الاقتصاد الموازي وتطوره وهو ما يمكننا من إيجاد الحلول لكي تصبح شعارات الحكومات
التونسية واقعا ملموسا.
إن من بين الأسباب الرئيسية هو العمل غير
المصرح به والذي يشكل سببا كبيرا للتهرب. هذه النسبة ترتفع الى 64% في جورجيا و28%
بالمائة في إيطاليا. وإذ تعلن مصادر رسمية في تونس أن 75% من الشباب تعمل في
الاقتصاد الموازي، فتخيل تأثيرات ذلك على كل الميادين لا يستحق أي تفصي.
ثاني أسباب تطور الاقتصاد الموازي هو عدم
تطور أساليب الانتاج واقتصارها على مجالات ضيقة وغير مؤهلة.
ثالث الأسباب هو تطور التهريب وتجارة
الممنوعات. وهنا يأتي سبب رئيسي من أسباب الوضعية التونسية، حيث أن غياب دولة قوية
ومنظومات فعالة في السنوات الأخيرة هو الذي جعل الأمر يتفاقم. التهريب أصبح اليوم
يعيش معنا في أصغر أنواع التجارة وأكبرها. والدولة سبب في تدهور الوضع بغضها الطرف
على مسالك التوزيع من "الحماص" الى بائع "السيارات الفارهة"
ومن الجم الى بن قردان. تقدر اليوم قيمة الثروة التي يدرها الاقتصاد الموازي
بعشرة مليارات دينار سنويا. أين تذهب هذه الثروة؟ في جيوب المضاربين والخارجين على
القانون ويصبح الأمر ككرة الثلج. من ناحية الاقتصاد التونسي يقترب من المنوال
اليوناني ومن ناحية أخرى يقترب النظام المجتمعي من المنوال الايطالي مع تطور
المافيات واستقوائها على الدولة. كرة الثلج لا تقف هنا، بل تتعدى ذلك إلى
المجال السياسي حيث لعب المال السياسي ومازال يلعب دورا كبيرا في صياغة المنظومة
الجديدة. كم صرفت من أموال في الحملة الانتخابية الأخيرة؟ من دفع لمن؟ ما هو عدد
الأحزاب التي نشرت تقاريرها المالية؟ كم من حزب قدم تقاريره للمصادقة للجنة
المختصة التي لم تجتمع منذ صدور مرسوم الأحزاب في 2011 ولو مرة واحدة.
أثرياء الحرب الذين برزوا بعد الثورة تمكنوا
من التحكم في مسالك التهريب والتوزيع والاحتكار. كل المعاملات تمت بالسيولة وبعيدا
عن المنظومة الرسمية، لا بنوك ولا فواتير وطبعا لا ضرائب تدفع. الأخطر أن كل
الدارة أصبحت موازية، من المورد (المهرب) إلى الموزع إلى بائع الجملة إلى بائع
التفصيل. وحيث أن التشريع التونسي يمارس سياسة النعامة، فقد رفض احتواء هذا النظام
بتعديل منظومة الصرف. بحيث أصبح المهربون أقوى من البنوك بل وأقوى من الشركات
العالمية لتحويل الأموال.
كشف هذه الأنظمة الموازية لا يكون بإضافة فصول جديدة في مل قانون مالية. بل بوضع نظام رقابي متكامل تشارك فيه أجهزة الدولة والديوانة والرقابة الجبائية والمهنيون المختصون في هذا المجال أي الخبراء المحاسبون والمحاسبين وعدول التنفيذ والإشهاد والمحامون.
كشف هذه الأنظمة الموازية لا يكون بإضافة فصول جديدة في مل قانون مالية. بل بوضع نظام رقابي متكامل تشارك فيه أجهزة الدولة والديوانة والرقابة الجبائية والمهنيون المختصون في هذا المجال أي الخبراء المحاسبون والمحاسبين وعدول التنفيذ والإشهاد والمحامون.
السبب الرابع والأخير لتطور الاقتصاد الموازي
هو الضغط الجبائي. في خضم حملة مقاومة التهرب الجبائي في تونس نسبة الضغط الجبائي
في ارتفاع، وهذه مفارقة كبيرة أن تمر النسبة من 20 الى 23% في اربع سنوات بينما
تنخفض هذه النسبة في الدول التي تسجل اقتصادات موازية ضعيفة.
هل هناك حل لهذه اللوحة السوداء؟ التاريخ
يقول لنا نعم. لأن دولة مثل تركيا استطاعت أن تتغلب على هذا الغول في عشر سنوات،
وبعد أن كانت محطة عبور بي آسيا وأوروبا أصبحت مثالا يحتذى به. التجارب
المقارنة تدلنا الى عديد الحلول: دولة تملك منظومات قوية وذكية، لا يكفي فيها
تزايد النصوص القانونية دون رؤيا مثلما نحن نفعل منذ سنوات. تطوير منظومات التعامل
الالكترونية، من البطاقات البنكية الى البطاقات الصحية الى منظومات التعامل
الهاتفية. تطوير الرقابة الفاعلة لأن الوعي لا يأتي وحده. وخاصة، تفعيل مبدأ
من أين لك هذا، بجرأة وكفاءة وعلى الجميع.
أنيس الوهابي